أساتذة الإبداع اليائسون [2/2]

ألفريدا يلينيك

تناولت في الجزء الأوّل من هذه القراءة في كتاب الروائيّة الكنديّة، نانسي هيوستن، "أساتذة اليأس: النزعة العدميّة في الأدب الأوروبيّ"، رحلة الكاتبة في استكشاف الرابط بين الأدب والعدم، ومحاولتها تتبّع أثر الحيوات الشخصيّة، والبناء النفسيّ، والتنشئة العائليّة، والظروف الاجتماعيّة لأبرز كتّاب العدميّة في القرن العشرين. بالإضافة إلى التداعيات السلبيّة للحرب العالميّة الثانية التي دفعت الكثير من الكتّاب في حينه للكفّ عن التفكير في الأدب بصفته أداة لفهم العالم على نحو أفضل، والمساعدة على العيش فيه، فباتوا متشكّكين في كلّ شيء، ووقعوا بين سندان اختفاء المركزيّة الإلهيّة على يد الحداثة، ومطرقة اختفاء القيمة الإنسانيّة للإنسان نفسه.

الأنثى المتّهمة

وتشير الكاتبة إلى دور الأنثى المركزيّ في حياة أساتذة العدم، وكيف ينظر لها الكثير منهم على أنّها السبب المباشر وراء كلّ هذه التعاسة التي يحيونها؛ فهي من قذفت بهم إلى العالم البائس ومنحتهم الخطيئة الكبرى التي يمكن أن تصيب أيّ إنسان: الحياة. تلك الخطيئة التي لا يمحوها ولا يمكن أن يغفرها سوى الموت.

نانسي هيوستن، مؤلّفة "أساتذة اليأس: النزعة العدميّة في الأدب الأوروبيّ"

على الرغم من ذلك، ترى هيوستن أنّ شهرة أساتذة اليأس مردّها قدرتهم على ملامستهم المطلق الداخليّ عند بني البشر، وهو اليأس. بمعنى آخر، إنّ شهرة هؤلاء لم تنطلق من قدراتهم الإبداعيّة فقط، بل من الولوج في عمق النفس البشريّة واللعب على المخفيّ فيها، لا على الظاهر المنظور.

ربّما أدّت الأنثى دورًا "سلبيًّا" في حياة الفلاسفة والكتّاب، مثل شوبنهاور، وسيوران، وكونديرا، وإميري كيرش، وصاموئيل بيكيت، لكن ما الذي يدفع روائيّة مثل ألفريدا يلينيك إلى العدميّة؟ ولماذا تغري السوداويّة كاتبات مثل ليندا لي، وكريستين أنجو، وسارة كين؟

الهامش حيّز المرأة الوحيد

حين فازت ألفريدا يلينيك بجائزة نوبل، قدّم أحد أعضاء الأكاديميّة استقالته من منصبه احتجاجًا على منحها الجائزة؛ فهي، حسب وصفه، ذات لغة فوضويّة، وبناء دراميّ ضعيف غير مقنع. ألفريدا، المولودة في النمسا لأب في السادسة والأربعين وأمّ في الثانية والأربعين، برّرت ظهورها المتأخّر في حياة والديها أنّ الوالد لم يكن يرغب في الإنجاب قبل أن يتأكّد من خسارة ألمانيا للحرب، وعلى الرغم من أنّ والدها كان يهوديًّا معتقلًا في أوشفيتس، إلّا أنّه، وفقها، تعاون مع الألمان في بعض الأبحاث الكيميائيّة، مجال تخصّصه. بعد انتهاء الحرب، التزم والدها الصمت فترات طويلة، وأخذت قدراته العقليّة تتناقص وحالته النفسيّة تسوء، ما دفع ألفريدا ووالدتها إلى إيداعه في مصحّة للأمراض النفسيّة حتّى وفاته. الأمّ نفسها، وفق ألفريدا، عانت من اضطّراب، وإن كان بدرجة أقلّ من والدها.

كريستين أنجو

ربّما يكون في روايتها، "عازفة البيانو"، بعض الإشارات إليها شخصيًّا، وإلى الحياة التي عاشتها في كنف والدتها، وذلك من خلال الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية، إيريكا. حالة الحصار التي فرضتها والدة إيريكا في الرواية تشبه إلى حدّ كبير قائمة الممنوعات التي وضعتها والدة ألفريدا عليها خلال حياتهما في المنزل نفسه، بالإضافة إلى الحركة المفرطة، مرورًا بالمجاهرة بمازوخيّتها، وانتهاءً بإعلانها مثليّتها الجنسيّة. أضفى كلّ هذا على نصوص ألفريدا بعدًا لغويًّا عنيفًا ينطلق من تدمير الذات، وتظهر فيه بوضوح تأثيرات الماركسيّة ونظريّات فرويد في التحليل النفسيّ.

يقول علي عزّت بوغوفيتش، إنّ العدميّة، بالأساس، نتيجة حتميّة لكلّ تلك المحاولات الفاشلة للوصول إلى القيم. لهذا، ترى ألفريدا أنّ الرجل يمثّل المعيار، فهو يشغل الحيّز، يقود ويعمل ليغيّر العالم، في حين تقف المرأة لترى ما يجري من الخارج من دون أن تكون مركزًا لأيّ شيء. الحيّز الوحيد الذي يمكن أن تشغله المرأة في وجهة نظرها الهامش، لا شيء غيره.

كراهية ما هو أموميّ

ترى هيوستن في تناولها لسارة كين، وكريستين أنجو، وليندا لي، في فصل "نساء أغواهنّ السواد"، أنّ العدميّات من النساء يكرهن في جسد المرأة ما هو أموميّ، وخصب، ومتبدّل، ومسؤول مسؤوليّة واضحة عن وجود الكائن البشريّ؛ لذلك من الطبيعيّ أن نرى في أعمالهنّ ميلًا إلى الإيذاء الجسديّ، لأنّ العدو داخليّ غير مرئيّ، أو بمعنى أدقّ، العدوّ هو الذات. ناهيك عن ثيمة الانتحار التي تتكرّر في معظم أعمالهنّ.

سارة كين

بالإضافة إلى ذلك، تكشف هيوستن عن المشترك بين الكاتبات العدميّات، فإمّا أنهنّ عرفن اضطّرابًا في العلاقة مع الأب حين يكون غائبًا أو معتلًّا نفسيًّا، كما في حالتي ألفريدا يلينيك وليندا لي، أو طاغية مغتصبًا، كما في حالتي كين وأنجو. يتكرّر في أعمالهنّ أيضًا، الإمعان في وصف الآلام الجسديّة، وانحرافات الجسد وانحداره إلى الحضيض؛ فسارة كين انصرفت إلى اختيار مواضيع صادمة وخارجة عن المألوف في كتاباتها، مثل سفاح القربى، وأكل الأعضاء البشريّة، وبتر الأعضاء الجنسيّة، واستخدام أدوات مثل العصيّ والأسلحة.

من هو أبي؟

تعرّج بنا الكاتبة على عوالم كريستين أنجو، ضحّيّة سفاح القربى في مراهقتها، والأثر الذي تركته الجريمة في نصوصها، حيث الميل المفرط إلى توريط شخصيّات رواياتها في علاقات محرّمة، تارة بين الأب وابنته، وتارة بين الأمّ وابنها. لقد كان لتجربة سفاح القربى التي خاضتها مع والدها الذي أنكر نسبها في البداية، أثر كبير في نفس كريستين، التي رأت بينها وهتلر قاسمًا مشتركًا، فكلاهما، والكلام لكريستين، بدأ حياته فنّانًا فاشلًا، وانتهى بهما المطاف يقومان بأعمال عظيمة. تمنح الأمومة كريستين بعدًا دنيويًّا جديدًا؛ فمن ناحية أصبحت أكثر تمسّكًا بالحياة، وتوقّفت عن الكتابة التي تمثّل في وجهة نظرها فعل انتحار.

تختتم هيوستن بالفيتناميّة ليندا لي، التي كبرت وهي مسكونة بالسؤال: من هو أبي؟ سؤال تظلّ تساورها الشكوك بشأنه على الرغم من اعتراف الأمّ أكثر من مرّة بهويّة والدها الحقيقيّ.

ليندا لي

لقد منحت ثنائيّة اللغة، الفيتناميّة والفرنسيّة، ملاذًا آمنًا لليندا، فالفيتناميّة لغة العائلة، والفرنسيّة اللغة التي تعزل بها ذهنها عن محيطها المربك والمعقّد؛ إنّها لغة الكتابة والهروب من العالم الأموميّ الذي لا تطيقه.

فهم مختلف للعدميّة

يقول وليد السويركي، مترجم الكتاب إلى العربيّة، إنّ اهتمامه بالنقد الأدبيّ ورفضه للمسلّمات والتعامل مع النصوص الأدبيّة بصفتها نتيجة لا تقبل التأويل أو القراءة في خارج سياقاتها المحدّدة سلفًا من قبل المؤلّف، وسعيه الحثيث لفهم العوالم الخاصّة بالكتاب، أمور دفعته إلى ترجمة كتاب هيوستن.

هيوستن من ناحية، كما يراها السويركي، أحد تلامذة بارت الذين اهتمّوا بالنظريّة البنيويّة، ما ساعدها في إضفاء أبعاد جديدة على قراءة المنتج الأدبيّ للكُتّاب موضوع البحث، ومن ناحية أخرى منحت القارئ فهمًا مختلفًا للعدميّة في الأدب الأوروبيّ، من خلال تسليط الضوء على البناء النفسيّ والاجتماعيّ لأدباء أوروبّا العدميّين.

 

تسمية

 

روائيّ فلسطينيّ من مواليد القاهرة عام 1976. حاصل على ليسانس آداب لغة إنجليزيّة، وماجستير في الدراسات الإسرائيليّة، ويعمل حاليًّا مديرًا لمتحف محمود درويش في رام الله. صدرت له روايتان: 'يعدو بساق واحدة' (2015)، و'الموتى لا ينتحرون' (2016).